أَلمي الرُّوحِيُّ

نشرت صحيفة “روسيسكايا غازيتا” في عددها الصادر في الثاني من أكتوبر مقالاً للخبير السياسي المرموق قدرة الله رفيقوف بعنوان "ألمي الروحي...". يناقش الكاتب مكانة أوزبكستان في التاريخ والثقافة العالمية، ويحلل أهمية إحياء التراث الروحي وفكرة النهضة الثالثة، ويربطها بالإصلاحات والمبادرات الحالية للرئيس شوكت ميرضيايف. بإذن الكاتب، نقدم النص الكامل لهذا المنشور لقرائنا.
أَلمي الرُّوحِيُّ ...
قُدْرَة اللهِ رَفِيقُوف – عالِمٌ سِياسِيّ
للوهلة الأولى قد يبدو عنوان المقال كئيبًا، وقد يُضفِي على النص طابعًا من التشاؤم. غير أنّه لا يحمل لا لومًا ولا عتابًا. فليس المقصود منه تشويه الماضي أو إخفاء الضغائن تجاه من مضوا، ولا حتى إبراز قيمة أيّامنا المشرقة وإنجازاتنا اليوم بمقارنتها بصفحات التاريخ المظلمة. ومع ذلك، يثور سؤال طبيعي: إن كان كلّ شيء يسير على ما يرام، فلِمَ هذا الألم؟
١
قال ألبير كامو يومًا:
“إنّ الأساطير لا تعيش من تلقاء نفسها، بل تنتظر من يُعطيها لحمًا ودمًا. يكفي أن يستجيب إنسان واحد لندائها، فتُروينا بعصارتها التي لا تنضب. إنّ واجبنا أن نحفظها، وأن نمنع نومها من أن يتحوّل إلى نومٍ أبدي، حتى يكون البعث ممكنًا”.
ومع أنّ مضمون تأملاتنا لا يتطابق تمامًا مع فكر الكاتب الفرنسي، إلا أنّه قريبٌ منه في المعنى. فقد فقدنا نحن أيضًا، عبر سنوات طويلة، ذاكرتنا عن تاريخنا الأسطوريّ، وثقافتنا، وأجدادنا، ومكانتنا في هذا العالم. وأصبحنا نلحظ نظرات الآخرين إلينا كأنّنا “من الدرجة الثالثة”، كأنّ وطننا في أقصى آسيا، بعيدٌ عن مراكز الحضارة.
وأمَرُّ ما في الأمر أنّ صورتنا الثقافية والتاريخية في الساحة العالمية قد تلاشت كما تتسرّب المياه في الرمل. فأصبح لفظ “أوزبك” و”أوزبكستان” لا يدلّ إلا على نقطةٍ على الخريطة، بعد أن كان يحمل معنىً أعمق وأغزر. بل إنّ اللاحقة “ـستان” في اسم بلادنا أُدرجت في قائمةٍ طويلة من أمثالها، وأحيانًا تُنطق باستخفافٍ أو ازدراء.
ولو أردنا أن نُضفي على تأملاتنا طابعًا أكثر جديّة، فحريٌّ بنا أن نستذكر قول أحد كبار علماء السياسة في الغرب:
“إنّ وطن ابن سينا والبيروني ليس مركزًا للحضارة في نظر أكثر الناس في الخارج، بل مجرّد منطقةٍ غير مستقرة ينبغي عبورها للوصول إلى مكانٍ آخر”.
وقد كان صادقًا في قوله، إذ لم تكن الحقيقة – للأسف – تختلف كثيرًا عن كلماته.
ومع ذلك، كما أشار هذا المفكر السياسي نفسه، فإنّ أوزبكستان، بتراثها الروحيّ والثقافيّ العريق، وتقاليدها الراسخة في بناء الدولة، لم تكن يومًا تستحق أن تُهمَل بين سائر “ـستانات”.
فهنا وُلد نهضتان عظيمتان – النهضة الإسلامية ونهضة التيموريين – خلّدتا أثرهما في تاريخ الإنسانية جمعاء. وهنا وقعت عواصم ممالك بسطت سلطانها على نصف العالم.
فأين هو ذاك التاريخ؟!
وأين هي الذاكرة التي تمنحنا الفخر والعظمة الروحية؟!
إنّ كلَّ من اطّلع على تاريخنا وتراثنا، ولو قليلًا، لا بدّ أن يتساءل هذا السؤال، ويشعر في قلبه بمرارة الألم على هذا الانحطاط الروحيّ البطيء.
٢
إنّي أؤمن بأنّ العقلاء المثقفين يدركون إلى أين تتجه أوزبكستان اليوم، وما العمق الذي تحمله التحوّلات الجارية فيها. غير أنّي أظنّ أن القليل فقط يلحظ تفصيلًا في غاية الأهمية. فما زلت متمسكًا بقناعتي القديمة: إنّ أوزبكستان وشعبها، بعد أن عاشا سنين طويلة في الشدائد والابتلاءات، يسيران اليوم ليس فقط في طريق ترسيخ السيادة الوطنية، بل في طريق استعادة ما نُزع من قلوبنا ظلمًا ونُسي عبر الأجيال – الذاكرة عن ماضينا العظيم، وثقافة أجدادنا، وتراثهم المجيد.
وهذا العمل النبيل ليس مجرد إحياءٍ للتاريخ، بل هو بحثٌ عن الوجه الحقيقيّ للأمة، واستعادةٌ لقوّتها الروحية وتجديدها. في هذا تكمن حقيقتنا وعدالتنا الموضوعية.
وأرى أنّ الوقت قد حان لأُعبّر بصراحة عن رأيي في مسألةٍ وثيقة الصلة بموضوعنا. فعندما بدأت البلاد تتحدّث عن “النهضة الثالثة” وطرحت هذه الفكرة على أعلى المستويات، استقبلها بعض الناس بسخرية. ولا يمكن القول إنّ مثل هذه المواقف قد زالت تمامًا – فهي لا تزال قائمة إلى اليوم. لكنّ المشكلة أنّ هؤلاء لا يرون إلا السطح الخارجيّ للسياسة، دون أن ينفذوا إلى جوهرها.
إنّ سرّ القوّة في الظاهرة الإصلاحية التي يقودها الرئيس شوكت ميرضيايف هو أنّه لم يُظهر حبّه الصادق للشعب والوطن في الكلمات، بل حفظه في قلبه وأعماله. فكان أسمى من أولئك الذين قابلوا الإخلاص بالسخرية والاستهزاء.
ومن يتأمل في أعماله بصدقٍ يرى الأساس الحقيقيّ: تلك القوّة الداخلية، والفكرة الحيّة، والطاقة التي لا تنضب، والتي تحرّك قائد دولتنا.
٣
“لِمَ أنشأنا مركز الحضارة الإسلامية؟ لكي نخلّد في صفحات التاريخ مجدَ وعظمةَ شعبنا، ولكي ينحني كلُّ من يدخل هذا الصرح ويغادره إجلالًا لهذا الشعب”.
هذه الكلمات صدرت حيّة من فم الرئيس أثناء الاحتفال الأخير بعيد استقلال الجمهورية. أما النص التالي فمقتطف من خطابه عام ٢٠٢٣، حيث قال:
“إذا ألقينا نظرة على الماضي، بجب علينا أن نعترف بحقيقةٍ مُرّة: حتى وقتٍ قريب كان لفظ “الأوزبكي” يعني صورة إنسانٍ يعمل من الفجر حتى الغروب في حقل القطن. للأسف، انحدرنا إلى هذا المستوى. لقد تحوّل احتكار القطن إلى كارثةٍ ولعنةٍ لشعبنا؛ جفّف بحر آرال، ودمّر البيئة، وأفسد الاقتصاد والتعليم. وحُكم على أجيالٍ متعاقبة بأن تبقى شبه أميّة. ونحن اليوم ما زلنا نكافح آثار ذلك”.
قد يبدو للوهلة الأولى أن لا صلة بين الاقتباسين، فهما يختلفان في الزمان والمضمون، غير أن وضعهما متتابعين لم يكن اعتباطًا، إذ بذلك يسهل فهم العالم الداخلي للرئيس، وأحلامه وتطلعاته، وجوهر فكرته في خطاباته.
وإذا أمعنّا النظر في المعنى الباطن، نرى أن الخطاب الخفي غير المرئي للوهلة الأولى يجعل من كلماته نسيجًا معنويًا واحدًا. فكلام الرئيس عن النهضة والبعث الروحي ليس مجرّد شعاراتٍ بل هو منظومة فكرية متكاملة تقوم على أساسٍ متينٍ واستراتيجيةٍ واضحة.
ومن الجدير بالذكر أن فكرة إنشاء مركز الحضارة الإسلامية – وهي الموضوع الرئيس لمقالنا – طُرحت من قِبل الرئيس في بداية عمله عام ٢٠١٧، وآنذاك بدأ تنفيذ هذه المبادرة الواسعة.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت فكرة “النهضة الثالثة” والنظرة الجديدة إلى تراثنا التاريخي والثقافي، وإلى عصري النهضة الإسلامية والتيمورية، وإلى ذكرى أسلافنا العظام، جوهرَ سياسة شوكت ميرضيائيف.
ويبدو أحيانًا أن عالمه الداخلي لا يملؤه سوى تطلّعٍ واحدٍ خفيّ: أن يضع كرامة الأمة والوطن في موضعها اللائق، ويعيد المجد الذي أُهين ودِيس بالأقدام.
لقد سنحت لي مرارًا فرصة سماع كلمات شوكت ميرومونوفيتش الملتهبة عن ماضي شعبنا وتاريخ وطننا، إذ قال:
“لماذا، حين تُنطق كلمتا “الأوزبكي” أو “أوزبكستان”، لا يخطر في البال سوى القطن والبلوف، والطربوش والچاپان التقليدي، وإبريق الشاي المزيَّن بزخارف القطن، ودار الشاي والضيافة؟ أليس لدينا ما نُريه للعالم غير ذلك؟ أليس لنا ما نفاخر به؟ لِمَ لا نُقدّم للعالم ماضينا العظيم – تراث أجدادنا الذين بهروا العالم بعلمهم ونور معارفهم؟ لماذا نخشَى هذه الذاكرة، ونخفيها، ونتظاهر بأنها غير موجودة؟ ولماذا نخاف من ذكر أسماء العظماء وإظهار تراثهم علنًا؟!
أوليس أجدادُنا هم من علّموا البشريةَ من الرياضيات إلى الطب، ومن الفلك إلى الفلسفة والموسيقى، وأرسوا أسسَ كثيرٍ من العلوم الحديثة؟!
أوليسوا هم من بنَوا إمبراطورياتٍ امتدت من ألتاي إلى البحر المتوسط، ومن مصر إلى الهند؟! فكيف بلغنا اليوم هذا الحال، حتى انحنت أكتافُ أبنائنا، وأطأطؤوا رؤوسهم، ووجّهوا أنظارهم إلى الأرض؟!..”
لقد مرّ ما يقارب ثلاثين عامًا منذ أن سمعتُ هذه الكلمات أول مرة من فم شوكت ميرومونوفيتش. ولا شكّ في أن هذا الألم الداخلي – الألم على مصير الأمة – هو الذي صاغ في قلبه وطنياً مخلصاً، ابنًا صادقًا لشعبه وأرضه.
حقًّا، إنّ ألمه هذا لم يكن مفتعلًا، بل كان صادقًا وعادلًا كلَّ العدالة. وبشيءٍ من الحماسة الصحفية يمكن القول: لقد بدا أحيانًا وكأنّ التاريخ نفسه كان ظالمًا لنا. لكن لا حاجة لإثبات أن أفكار علمائنا العظام واكتشافاتهم قد كتبت صفحاتٍ جديدة، لا في العلوم الدقيقة وحدها، بل كذلك في التاريخ والجغرافيا والفلسفة والثقافة والفنون والعمارة، فأسهمت في إثراء الحضارة الإنسانية.
يكفي أن نتذكّر أن محمّد بن موسى الخوارزمي وضع أسس النظام العددي الحديث، وأن أبا علي ابن سينا ألّف عمله الخالد “القانون في الطب”، وأن أبا الريحان البيروني قاس نصف قطر الأرض بدقّةٍ نادرةٍ باستخدام الإسطرلاب البسيط، وأنّ كريستوف كولومب حين اكتشف أمريكا اعتمد على حسابات أحمد الفرغاني. كل ذلك برهانٌ على عقلٍ لا يحدّه مدى، وعلى الإرث العلميّ العظيم لأسلافنا.
وليس مصادفة أنّ الورق السمرقندي كان يُعدّ في زمانه مثالًا للجودة، وأنّ زخارف قصور أوروبا وكنائسها كانت تُصنع من حرير فرغانة. إنّ في هذا كله دليلًا على عِظَم التراثين الروحي والماديّ اللذين خلّفهما أجدادنا.
ويورد الباحث الأمريكيّ الشهير فريدريك ستار مثالًا أكثر إشراقًا وإلهامًا، إذ يقول متحدثًا عن عصر النهضة الأولى في آسيا الوسطى:
“إنّ آخر انفجارٍ قويّ للطاقة الثقافية في هذا الإقليم حدث في عهد السلاجقة الأتراك، واستمرّ أكثر من قرنٍ منذ عام ١٠٣٧. ومن عواصمهم الشرقية – مَرْو (في تركمانستان الحالية) ونيسابور (على حدود أفغانستان وإيران) – دعموا العلماء والمخترعين في شتى المجالات.
ومن أعظم منجزات ذلك العصر ابتكارُ القبة المزدوجة التي تستطيع تغطية فضاءاتٍ واسعة، ولا تزال أوائل نماذجها باقيةً حتى اليوم في أطلال مرو القديمة. وبعد أن جابت هذه الفكرةُ المعماريةُ العالمَ، من قبة برونليسكي في فلورنسا إلى كاتدرائية القديس نيقولاوس في بطرسبورغ، بلغت ذروتها في قبة مبنى الكابيتول في واشنطن”.
نعم، إن هذا الاعتراف العادل يثبت أن أجدادنا كانوا عظماء حتى في فنّ العمارة. لكن من ذا الذي يعرف اليوم – سوى قلّةٍ من المتخصصين – هذه الحقيقة ويعترف بها؟ من يخبر العالم بأنّ شعبنا كان يمتلك هذا القدر الهائل من الإبداع والذكاء؟
لقد كنت أرى منذ ذلك الحين في كلمات شوكت ميرومونوفيتش، وفي عينيه، ذلك الألم العميق وذلك السؤال الصامت.
٤
قال أحد الفلاسفة الأوروبيين في منتصف القرن العشرين، وهو يصف الحروبَ والمآسي التي هزّت القارة والعالم:
“إذا كان الفنّانون، في زمنٍ عصيب كهذا، لا يزالون يرسمون مشاهد السلام ويصوّرون الدجاج النائم، فذلك يعني أنّ الإيمان بالجمال، وبالخَلق، وبالسلام والخير، لا يزال حيًّا في قلب الإنسان”.
وأنا، بعد ما يقارب القرن، أضيف: اليوم، والعالم يقف على حافة كارثةٍ نووية (ومنطقتنا تجاور أربعَ دولٍ نووية)، وفي الوقت الذي تتحدث فيه إحدى القوى الطامحة إلى زعامة النظام العالمي عن تحويل “وزارة الدفاع” إلى “وزارة الحرب”،
أليس من حقي أن أتساءل: أيُّ قلبٍ يجب أن يملك الإنسانُ كي يستطيع، في مثل هذه الأزمان، أن يتحدث عن الحضارات، وعن التراث الثقافي، وعن الفنّ والقيم الخالدة، وأن يملك الشجاعة لتجسيد كلّ ذلك في الواقع؟
وهل يمكن اعتبار مثل هذا السؤال غيرَ مناسب في محلّه؟
وإذا استشهدنا بكامو الذي كتب بأنّ الأساطير لا ينبغي أن تموت، وأنه لا بدّ من أن يوجد ولو إنسانٌ واحدٌ يستجيب لندائها ويبعث فيها حياةً جديدة، مؤمنًا بأنّ في ذلك ضرورةً تاريخيةً - فبأيّ قوّة يمكن منعها؟
ولا شكّ أن الموضوع الذي نناقشه يستحقّ بطبيعته هذا النسقَ التصويريَّ من اللغة، واستعمال المفاهيم الفلسفية.
ففي جوهر هذه الفكرة لا يكمن فقط السعيُ إلى الدفاع عن مصالح الأمة والوطن، بل كذلك الرغبة في توجيه الفكر والمشاعر نحو الأفق الإنسانيّ العام، ودقّ ناقوس اليقظة في عالمٍ يزداد تعبًا ورتابة، والتذكير بأنّ في هذا العالم ما زال الخيرُ والجمالُ موجودَين.
وسنعود إلى هذه التأملات بعد قليل.
٥
اليوم يجدر بنا أن نتناول مسألةً بالغ الأهمية لنا.
ومما يدعو إلى الأسف أنه حين يُتحدث على المستوى العالمي عن “الحضارة الإسلامية" التي احتلّت مكانًا راسخًا في تاريخ الثقافة العالمية، كثيرًا ما تُستبعد بلادُنا وشعبُنا من هذا السياق.
مع أن الحقَّ أن لنا أَولى الأسباب في أن نعدَّ أنفسنا الورثة الحقيقيين لهذا التراث ذي القيمة العظيمة.
نعم، كان المركز الرسمي للخلافة في بغداد، ولْيكن أنّ بعضهم يحاول تصوير تلك النهضة العظيمة على أنّها ظاهرةٌ مقتصرةٌ على الشرق الأوسط، وعلماؤها جزءٌ من العالمين الفارسي أو العربي، غير أنّ الحقيقة أنّ المركز التاريخي والأساس الفكريّ الأهمّ كان هنا، عندنا - وهذه حقيقةٌ موثَّقة.
وقد عبّر فريدريك ستار، الذي سبقت الإشارة إليه، عن هذا المعنى تعبيرًا دقيقًا في أحد مؤلفاته، إذ قال:
“مع أنّ الخليفة المأمون نُصّب منذ عام ٨١٨م، فقد رفض مغادرةَ آسيا الوسطى، وأدار شؤون العالم الإسلاميّ من مدينة مرو العجيبة الواقعة في أراضي تركمانستان الحالية. ولمّا انتقل لاحقًا إلى بغداد، حمل معه لا الجيوشَ التركية فحسب، بل أيضًا كنوزَ آسيا الوسطى الثقافية التي تكوّنت من امتزاج الثقافتين التركية والفارسية. إنّ هذا الانتقال من آسيا الوسطى إلى الشرق الأوسط كان في جوهره تكرارًا لظاهرةٍ قديمة هي "هجرة العقول" من مراكز المعرفة اليونانية إلى روما”.
أما المؤرخ في جامعة أكسفورد بول ووردسورث، وهو باحث في التاريخ القديم، فيؤكد أنّ آسيا الوسطى كانت يومًا ما تحتلّ موقعًا محوريًّا في تشكيل النظام العالمي.
إذ قال في مقابلةٍ مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC:
“يُظنّ أنّ أراضي أوراسيا المترامية الأطراف كانت دائمًا مترابطةً فيما بينها، وهذا خطأ. فآسيا الوسطى هي قممُ الجبال الأعلى على وجه الأرض، وهي الأنهار الجامحة التي شقّ البشر عبرها طريقهم قرونًا طويلة.
وفي منتصف الألفية الأولى ظهرت هنا قوافلُ التجّار الذين لم يكتفوا بشقّ الطرق عبر تضاريسَ عسيرةٍ، بل حوّلوا الإقليم إلى قلب التجارة العالمية.
غير أنّ آسيا الوسطى لم تكن مجرّد ملتقى للقوافل، بل أصبحت مهدًا للعلم والإبداع؛ إذ كان العلماء ينتقلون من مدينةٍ إلى أخرى يتبادلون الاكتشافات.
فكانت بخارى وسمرقند على طريق الحرير مركزين للمعرفة يمكن مقارنتهما بأوكسفورد وكِمبريدج في زمانهما.
وعندما يُذكر طريق الحرير يُشار عادةً إلى الصين أو إلى الإمبراطورية الرومانية، وكأنّ ما بينهما عاش عالةً تحت تأثير الآخرين.
لكنّ التاريخ الحقيقيّ لآسيا الوسطى يهدم هذه الصور النمطية: فهنا، بقوة العقل وبالثقافة الأصيلة، تمكّن الإنسان من توحيد أوراسيا بأسرها في كيانٍ واحد”.
إلا أنّ ما يؤسَف له – كما يلاحظ ووردسورث بحق – أنّ منطقتنا ظلت قرونًا طويلة في ظلّ تأثيراتٍ أجنبية،
والأشدّ مرارةً أنّ ثمة اليوم أيضًا من يحاول تصويرَنا “فناءً خلفيًّا” لإحدى القوى الكبرى، ليُقصينا من جديد إلى هوامش التاريخ العالمي.
٦
يجب الاعتراف بأننا في عصورٍ مختلفة نظرنا إلى التاريخ بطرقٍ شتى. أحيانًا كنا أسرى له دون تذمّر، وأحيانًا أخرى اكتفينا بأن ندفئ أنفسنا بالفخر بالماضي. كنا نعيد صياغته كما يُفصَّل القماش على المقاس، نمسك بالمقصّ ونقصّه كما نشاء. والجميع يذكر هذا الموقف في العهد السوفيتي. غير أنّ تغيّراتٍ جذرية لم تحدث حتى في فترة الاستقلال. وإنصافًا للحق، لا يمكن القول إنه لم تكن هناك أي تحرّكات: فقد دار بعض النقاش وظهرت مبادرات، لكنها كانت تُطرح من حينٍ إلى آخر لا عن حاجةٍ داخليةٍ حقيقية.
ويحتلّ مكانةً خاصة في هذا السياق المجمّع المعماري الذي، بعد أن بدأ من شهرسبز ومرّ بسمرقند، وجد اكتماله في قلب العاصمة – النصب البرونزي المهيب لصاحب قران.- الأمير تيمور. كانت هذه الخطوة رمزًا لأولى سنوات الاستقلال وتجسيدًا بارزًا للاعتزاز بجدّنا العظيم وإرثه الخالد. وقد سُمّيت الساحة الفسيحة والمهيبة باسم الأمير تيمور، وافتُتح في جوارها متحف الدولة لتاريخ التيموريين. لم تقتصر هذه الخطوات على تخليد الذاكرة، بل عبّرت بوضوح عن الموقف الرسمي للدولة تجاه الماضي. أي إنّها كانت اعترافًا بصورة تيمور وعظمة دولته بوصفهما رمزًا للدولة المستقلة المتجددة. وهنا يجدر التذكير بأنّ هذه الفكرة قد طرحها أولاً في التاريخ الحديث المجددون، ولم تكن قاصرة على شخصية صاحب قران فحسب، بل شملت أيضًا كوك تُرك أتيلا، وبيلغا خاقان، وأوزبك خان، وحتى الشخصية الملتبسة لجنكيز خان، التي – رغم تناقضاتها – أنارت الوعي القومي كذلك.
وفي الحقيقة، بالنسبة لجمهوريةٍ سوفيتيةٍ سابقة نالت حريتها حديثًا، بدا ذلك أمرًا طبيعيًا وجديرًا بالثناء. غير أنّ استثناءاتٍ قليلة شوّشت هذا الهدوء. ففي تلك الفترة، وإن لم يُعلن ذلك صراحة، ترسّخت في الوعي الجماعي صورةٌ أن تاريخنا يبدأ وينتهي عند تيمور وسلالته. نعم، يبدو هذا القول حادًا، لكنه لا يبتعد كثيرًا عن الواقع. فقد كان العلماء والمفكرون العظام الذين عاشوا قبل ألف عام يُذكرون أحيانًا، وتُدرج أسماؤهم في الخطب السياسية لإضفاء بعض الوجاهة، غير أنّ الماضي العريق الممتدّ لثلاثة آلاف عام لم ينل التقدير الذي يستحقه. وربما إن كان اليوم يُعدّ البيروني والخوارزمي وابن سينا والفارابي وغيرهم من أسلافنا العظام عربًا أو فرسًا، فإنّ ذلك لا يدلّ إلا على لا مبالاتنا السابقة بإرثنا الأصيل.
فلنذكّر: في تلك السنوات كنّا نحتفل رسميًا بألفيات مدننا وأحداثنا، ونُقيم المهرجانات تكريمًا لعلمائنا العظام المعترف بهم في العالم، بمناسبة مرور ألفٍ أو ألفي عامٍ على ميلادهم، ومع ذلك كنا نردّد – على نحوٍ غريب – أنّ التاريخ الوطني يبدأ من القرن الرابع عشر، من عهد أمير تيمور.
والأعجب من ذلك أنّ عشرات القرون التي سبقت القرن الرابع عشر، وستة قرونٍ تلته، كأنها تلاشت من الذاكرة، وكأنّ ذلك الماضي لم يوجد إلا في مخطوطات العلماء والكتّاب. وفي الحقيقة لم يكن هذا إلا إخضاعًا للتاريخ للأيديولوجيا والسياسة؛ نستبعد ما لا يناسبنا ونُبقي ما يخدم مصالحنا الآنية.
ولنأخذ مثالًا على ذلك الشعبوية السياسية الأيديولوجية: لتهدئة استياء المثقفين والمجتمع، بنينا في حيّ يونس آباد بطشقند نصبًا تذكاريًا لضحايا القمع. ولكن، بصراحة، فلنعترف: هل استطعنا من خلال هذا النصب أن نُوصل إلى أذهان الأجيال الحاضرة كلّ مأساوية وتعقيد تلك الحقبة الرهيبة التي مستْ شعبنا وجميع شعوب الاتحاد السوفيتي السابق؟
ولهذا السبب توقّفت عند هذا الأمر عابرًا.
٧
أعتقد أنه من المناسب الآن أن نعود إلى الموضوع الرئيسي الذي اتخذناه محورًا لهذه المقالة. أذكّر بأنّ بناء هذا المجمع بدأ عام 2017، وهو يقع في قلب طشقند، في منطقة مجمّع “حضرة الإمام” الشهير، ويمتدّ على مساحة عشرة هكتارات. يمتدّ المبنى المهيب بطول 161 مترًا وعرض 118 مترًا، ويتألّف من ثلاثة طوابق، ويعلوه قُبّة فيروزيّة ترتفع إلى 65 مترًا. أُقيم البناء على قطعة أرض مساحتها 1.8 هكتار، وتبلغ المساحة المفيدة الإجمالية له 42 ألف متر مربّع. هذه الأرقام الجافة وحدها تدلّ على أنّ “مركز الحضارة الإسلامية في أوزبكستان” سيكون من بين أكبر المجمعات في العالم من حيث الضخامة والامتداد والشمول، المكرّسة لدراسة التاريخ والثقافة والتراث الإسلامي ونشرها.
وأرى أنّ من الممكن أن أتحدّث عن هذا الصرح المهيب بشيء من التفصيل، كشخص رآه بعينيه وشعر بفخر واعتزاز لا يُقارنان.
لقد شُيّد المجمع وفق أرقى تقاليد العمارة الشرقية والوطنية. يمكن الدخول إليه من أيّ جهة عبر أربعة بوابات ضخمة. واجهاتها، كما الجدران الخارجية للمبنى بأكمله، مزيّنة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تحمل أعظم القيم: العلم والمعرفة، الرحمة وسعة الصدر، وبرّ الوالدين.
وفي متحف المركز ستُقام معارض فريدة من نوعها: “قاعة القرآن”، قسم عن الحضارات ما قبل الإسلام، معارض عن عصرَي النهضتين الأولى والثانية، وعن فترة الخانات الأوزبكية، وأوزبكستان في القرن العشرين، وكذلك “أوزبكستان الجديدة – النهضة الجديدة”. أمّا الطابق الثاني، فقد خُصّص لمكاتب المنظمات الدولية وفروع أكثر من مئة معهد علمي ومتحف ومكتبة من تركيا وروسيا ودول أخرى، بما في ذلك من آسيا الوسطى. ومن بين هذه المؤسسات مراكز مشهورة مثل “الفُرقان” و”مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية”.
وممّا يستحقّ الاهتمام أنّ نشاط المركز يتضمّن نظامًا لتخطيط البحوث العلمية، مستفيدًا من الخبرة الوطنية والدولية على حدّ سواء. وهنا لا بدّ من التأكيد على نقطة مهمة: كثيرًا ما نتحدّث اليوم عن الظاهرة العظيمة المتمثلة في “النهضتين” اللتين وُلدتا على أرضنا، لكن قلّما نتأمل في الكيفية التي تحققت بهما. والتاريخ يشهد بوضوح أنّ كلتا النهضتين قامتا بفضل التبادل الثقافي والانخراط العضوي في الفضاء العلمي العالمي.
وقد أُنشئ المركز منذ البداية ليكون منصّة للتعاون مع أكبر المؤسسات العلمية والثقافية في العالم. وبعبارة أخرى، من المفترض أن يأتي إلى أوزبكستان ألمع العقول والمفكرين من مختلف أنحاء العالم ليعملوا هنا، تمامًا كما استقطب الخليفة المأمون والأمير تيمور أعظم العلماء والمفكرين في عصرهما. ويجدر التأكيد على أنّ في بناء هذا المجمع وتجهيزه شارك كبار المتخصصين والعلماء من عشرات الدول.
وقد أبدت بالفعل عشرات المتاحف والمراكز العلمية المرموقة رغبتها في عرض مقتنياتها خلال الافتتاح الرسمي للمركز، ومن بينها: متحف الفن الإسلامي (ماليزيا)، مكتبة السليمانية (تركيا)، متحف الإرميتاج الحكومي ومتحف تاريخ الأديان الحكومي في سانت بطرسبورغ، مجمّع “حضرة سلطان” (كازاخستان)، جامعة بولونيا (إيطاليا)، مؤسسة راتّي، مجموعة ألبرتو ليفي، المتحف الوطني لتاريخ أذربيجان، مجموعات ديفيد بايلي وبروس باغانزا وديفيد ريسبورد (الولايات المتحدة)، فضلًا عن “مؤسسة مرجاني”.
وخلال عملية تنظيم عمل المتحف لفتت انتباهي نقطة أخرى مهمة أسعدتني بصدق. فليس سرًّا أنه في السابق كانت تنتشر من حين إلى آخر في وسائل الإعلام أو شبكات التواصل الاجتماعي أخبار مزعجة عن سرقة مخطوطات أو آثار تاريخية من بعض متاحف أو معاهد أوزبكستان وتهريبها إلى الخارج بطرق سرية. أمّا اليوم، فالأمر مختلف تمامًا: الحديث لم يعد عن السرقات، بل عن عودة الكنوز الثقافية لشعبنا إلى الوطن بعد أن كانت قد نُهبت سابقًا بتلك الأساليب الهمجية.
ومؤخرًا، تمّ في لندن، في مزادات “سوذبي” و”كريستيز”، وكذلك من بعض الجامعين وتجار الفن المعروفين، شراء أكثر من 580 قطعة أثرية تعود إلى التراث الثقافي لأوزبكستان لصالح المتحف الجديد. تخيّلوا! ما يقرب من ستّمئة من آثارنا تعود إلى موطنها - حدث لم يسبق له مثيل في تاريخنا! ومن بين هذه الكنوز الثمينة: جزء من مصحف بَيسُنغُر المهيب الذي نسخه الخطاط عمر أقتا بأمر من الأمير تيمور، خناجر وسيوف من عهد البابوريين، مقبض خنجر فريد، تطريزات رائعة من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من زمن الخانات الأوزبكية، منمنمات من عهدي البابوريين والصفويين، حليّ ذهبية من دولة القبيلة الذهبية، نسخة من “المثنوي المعنوي” لجلال الدين الرومي، صفحة من”مجمع التواريخ” لحافظ أبرُو من عهد التيموريين، إضافةً إلى خزف وفضّة من سُغد والقرخانيين والسلاجقة.
٨
يذكر المؤرخ مطربي السمرقندي، الذي عاش في القرنين السادس عشر والسابع عشر، في أحد مؤلفاته الطاقة البنّاءة لأحد أبرز ممثلي سلالة الشيبانيين، آخر حكّام توران، عبد الله خان. وينقل عنه قوله:
“لقد ترك الأمير علي شير نوائي الذي كان مقرّبًا من السلطان حسين ميرزا وراءه ألف بناء خيري، ونحن الملوك - إذا لم نشيّد عشرة آلاف على الأقل، فبأيّ حقّ نُسمّى حكّامًا؟”.
تُظهر لنا التجارب التاريخية أن كلّ حاكم عظيم كان يرى في البناء والعمران ضمانًا لخلود اسمه، غير أنّ القليل منهم استطاع أن يخلّد أثره حقًّا. إنّ الأعمال التي تستمدّ حياتها من العلم والفنّ والثقافة وحدها هي التي تظلّ خالدة على مرّ الزمن، ويُعدّ عصرَا النهضتين الأولى والثانية في تاريخنا خيرَ شاهدٍ على ذلك.
إنّ المشروع الذي اقترحه شوكت ميرضيايوف يتميّز بطابعٍ عالميّ شامل ونظرة فريدة. ومن خلال نشاط المركز يتّضح أنه لا يسعى إلى تكرار أخطاء الماضي التي جعلتنا “أسرى التاريخ”، بل يهدف إلى إحياء تراث الأسلاف، وربط التقاليد بالحداثة، والتاريخ بالمستقبل، وفتح آفاق جديدة نحو أفقٍ مشرق. وإذا ما وفد إلى هنا مئات العلماء المرموقين من مختلف أنحاء العالم ليعملوا ويبدعوا، فإنّ ولادة المعجزات والاكتشافات الحقيقية لن تكون سوى مسألة وقت، وقد شهد التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك.
قلّ من يتأمل اليوم في القصص المدهشة الكامنة وراء أوبرا “عايدة” أو تمثال الحرية. ففي عام 1869 كلّف حاكم مصر إسماعيل باشا الموسيقي الإيطالي الكبير جوزيبي فيردي بتأليف أوبرا احتفالًا بافتتاح قناة السويس، فكانت النتيجة ولادة “عايدة” التي عُرضت لأول مرة على مسرح القاهرة عام. 1871 وفي الوقت نفسه اقترح إسماعيل باشا على النحّات الفرنسي فريدريك بارتولدي إنشاء تمثالٍ ضخم لامرأة تحمل مشعلًا عند مدخل القناة، لكن المشروع كان مكلفًا إلى حدٍّ جعله يتعذّر تنفيذه. وبعد سنوات، عاد الفكرة إلى الحياة في هيئة تمثال الحرية الذي أصبح لاحقًا رمزًا لأمريكا.
٩
لم تكن طشقند يومًا مدينة تحتاج إلى المديح أو الأوصاف المبالغ فيها؛ فعمق تاريخها يمتدّ إلى أزمنةٍ بعيدة جدًّا، وقد كتب عنها ليس فقط علماؤنا الكبار - أبو الريحان البيروني، والخوارزمي، ومحمود الكاشغري - بل حتى العالم اليوناني القديم كلوديوس بطليموس في القرن الثاني الميلادي، الذي ذكرها في كتابه “المرشد إلى الجغرافيا”.
على مرّ العصور، ظلّ اسم طشقند يستحضر في الأذهان صورة المدينة القديمة، ولكن ما الذي حدث في هذا الجزء من العاصمة، الذي كان منذ قرون المركز الثقافي لمدينة شاش، خلال المئة عام الأخيرة؟
تشهد الوقائع أنّه في ثمانينيات القرن الماضي ظهر هنا رمز من رموز الحداثة السوفيتية - سوق تشورسو، ثم في عهد الاستقلال بُني مجمّع حضرة الإمام، وإلى جواره دار الأزياء زرقينار. ومع كلّ هذه التغييرات، بقي هذا الجزء من المدينة على الدوام القلبَ الروحيّ والثقافيّ لشاش القديمة.
واليوم، ما عليك إلا أن تسير في شوارع المدينة القديمة لتشهد معجزةً حقيقية: ستشعر وكأنك تخطو داخل التاريخ ذاته، وسيبدأ خيالك بالتحاور مع الماضي - وأنا أضمن لك ذلك.
وسوف تجذبك شارع قارا ساراي الذي يفتح عليه المدخل الرئيسي للمركز؛ هناك يصعب مقاومة سحر طابع عاصمتنا القديمة.
يا للعجب! كيف أمكن تحقيق مثل هذه التحولات في زمنٍ وجيز!
بصراحة، يكاد العقل لا يصدق.
لقد تولّيتُ في وقتٍ من الأوقات رئاسة بعض مناطق طشقند، وكنتُ أعلم أنه لتوصيل أنبوب صرف صحيّ عادي كنّا نحتاج إلى سنوات، ولإصلاح بسيط كنّا نبحث عن حفّارة شهورًا طويلة.
أمّا اليوم، فهذه الحقيقة الجديدة بإمكاناتها تبدو كأنها حلم مدهش أو أسطورة جميلة.
وأنا على يقينٍ تامّ بأنّ مركز الحضارة الإسلامية لن يكون مجرّد نَفَسٍ جديد لتراث المدينة القديمة، بل سيرتقي بطشقند إلى مدارٍ ثقافيّ جديد في المنطقة، ليضعها جنبًا إلى جنب مع سمرقند وبخارى.
١٠
لأحد الكتّاب الروس عبارة مشهورة تقول: “إذا وُجد على خشبة المسرح بندقية معلّقة، فلا بدّ أن تطلق النار في النهاية.”
قيل هذا عن المسرح، لكنّ جوهره يتناغم على نحوٍ مدهش مع واقعنا الراهن.
ولولا أن أوضّح لماذا اخترت هذا العنوان الصارم للمقال، ومن أين جاءني هذا الشعور، لفقد النصّ منطقه الداخلي، لذلك أُفسّر.
حين رأيتُ التاريخ مجسّدًا أمامنا في صورة مركز الحضارة الإسلامية، انقبض قلبي من حُرقة حزنَين:
الأول - أنّنا، على الرغم من ما نملكه من ماضٍ مجيد، لم نستطع أن نقدّمه ونعرضه إلى العالم بما يليق بعظمته.
والثاني - أنّنا، ونحن أصحاب ثروة ثقافية كان يمكن أن تغني الإنسانية جمعاء، لم نسعَ قطّ إلى جمعها وتوحيدها، لنقول للعالم: كلّ هذا من صنع أجدادنا.
ومع ذلك، حتى بعد أن تجاوزنا النظام السوفيتي، وبعد عهد شرف رشيدوف الذي أتاح لنا برهةً من الانفراج في القضايا الوطنية، تعاقب على قيادة البلاد رجالٌ كثر.
فلماذا - حتى في سنوات الاستقلال - لم نفعل ذلك؟
لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
أكان ينقصنا المال؟
إنّ الثروات لا تهبط من السماء اليوم كما لم تكن تهبط بالأمس - فالقَطن والذهب والغاز كانت موجودة من قبل.
فلماذا لم نفعل ذلك في وقتٍ أبكر؟ عمّاذا كنّا ننتظر؟!
تثير هذه الأسئلة شعورًا بالذنب - أمام التاريخ، وأمام أرواح أسلافنا الطاهرة.
إنّ الوقت الضائع، واللامبالاة، والنظرة المتساهلة إلى تاريخنا وثقافتنا العظيمة، تجعل هذه الآلام أشدّ لهيبًا.
لكنّ العالم القديم وذاكرة التاريخ يحملان في طيّاتهما الحكمة؛ فحدثٌ مفاجئ، أشبه بالمعجزة، قد يمحو الحزن والأسى، ويضيء بنوره قلب الإنسان والعالم بأسره.
ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى محبّة شوكت ميرضيايوف اللامحدودة لشعبه ووطنه، ووفائه البنويّ لوطنه، على أنّها بركة من القدر قادرة على محو أخطاء الأمس وشفاء قلب الأمة.
الأكثر قراءة
- كارامات أمانوفا تحطّم الرقم الآسيوي وتُتوَّج بطلةً للعالم
- عُقد لقاء في مجلس الشيوخ مع المنسقة الدائمة للأمم المتحدة في أوزبكستان
- وُلِدَ طفلٌ في مترو طشقند.
- قد يُفتتح مكتب تمثيلي لشركة «ميتا» في أوزبكستان
- الرضيع الذي وُلد في مترو طشقند وأمّه سيحظيان بركوب مجاني مدى الحياة
- أَلمي الرُّوحِيُّ
Comments
No comment yet. Maybe you comment?
Enter to comment